فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (30):

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)}
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السلام {إِنّى عَبْدُ الله} روى أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولًا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جميع ما قال تنبيه على براءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة.
واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني {أُمُّ الكتاب} الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا}.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)}
{وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكًا} قال مجاهد نفاعًا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان: معلم الخير آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر. وعن الضحاك قاضيًا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلًا واستنبأه طفلًا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله: {آتانى الكتاب} [مريم: 30] {أَيْنَ مَا كُنتُ} أي حيثما كنت. وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركًا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولًا لجعلني السابق لأن أين لا تكون إلا استفهامًا أو شرطًا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
{وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ} أي أمرني بهما أمرًا مؤكدًا. والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورًا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر. وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بإيجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل يحمل للزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد {أوصاني} بأداء زكاة المال أن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه: {والزكواة مَا دُمْتُ حَيًّا} مدة كونه عليه السلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام هناك كذا قيل.
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسلام حيًا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا {دُمْتُ} بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة.

.تفسير الآية رقم (32):

{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)}
{وَبَرًّا بِوَالِدَتِى} عطف على {مُبَارَكًا} [مريم: 31] على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدًا للفصل بالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارًا بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السلام. وقرئ {برًا} بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السلام برًا من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى {أوصاني} أي وألزمني أو وكلفني برًا فهو من باب:
علفتها تبنًا وماءً باردًا

وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدًا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه.
وجوز أن يكون معطوفًا على محل {أَهْلَكَ بالصلاة} كما قيل في قراءة {أَرْجُلِكُمْ} بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينًا واحدًا، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرئ {وبر} بكسر الباء والراء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولًا واحدًا، والتنكير للتفخيم {بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا} أي لم يقض على سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنًا، وكان عليه السلام يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر فتذكر فما في العهد من قدم. والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضًا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسلام وعينه لا يكون سلامًا لعيسى عليه الصلاة والسلام لجواز أن يكون من قبيل {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} [البقرة: 25] بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودًا وسردًا فيكون معهودًا غير سابق لفظًا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه السلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام لكونه من قول عيسى عليه السلام، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السلام به عليه السلام فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {يَوْمَ وُلِدْتُّ} بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته.

.تفسير الآية رقم (34):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}
{ذلك} إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة. وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {عِيسَى} وقوله سبحانه: {ابن مَرْيَمَ} صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفًا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السلام إلهًا وابنًا لله عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام، وقيل: هو مستفاد من تعريف الطرفين بناءً على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقًا يفيد الحصر، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كـ {تلك آيات الكتاب} [يونس: 1] على ما في بعض شروح الكشاف. وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضًا بناءً على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول.
{قَوْلَ الحق} نصب على المدح. والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى، وأطلقت عليه عليه السلام عنى أنه خلق بقول كن من غير أب. وقيل: نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت.
وقيل: نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل: هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفًا وجوبًا. وقال شيخ الإسلام: هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله إلخ وقوله سبحانه: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. و{الحق} في الأقوال الثلاثة عنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقرأ الجمهور {قَوْلَ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل: صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد خبر لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان. والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى. وقرأ ابن مسعود {قَالَ الحق}. وقال الله برفع {قَالَ} فيهما.
وعن الحسن {قَوْلَ الحق} بضم القاف واللام. والقول والقال والقول عنى واحد كالرهب والرهب والرهب. ونص أبو حيان على أنها مصادر. وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة. والأعمش في رواية {قَالَ الحق} برفع لام {قَالَ} على أنه فعل ماض ورفع {الحق} على الفاعلية، وجعل {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} على هذا مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم {الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود: هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى: ابن الله سبحان الله عما يقولون.
والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وداود بن أبي هند. ونافع في رواية. والكسائي كذلك {تَمْتَرُونَ} بتاء الخطاب.

.تفسير الآية رقم (35):

{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)}
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه} أي ما صح وما تستقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرًا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص. وقرأ ابن عامر {فَيَكُونُ} بالنصب على الجواب. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (36):

{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}
{وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} عطف على ما قال الواحدي على قوله: {إِنّى عَبْدُ الله} [مريم: 30] فهو من تمام قول عيسى عليه السلام تقريرًا لمعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو.
والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابًا لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أي قل يا محمد إن الله إلخ. وقرأ الحرميان. وأبو عمرو {وَأَنْ} بالواو وفتح الهمزة. وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَدًا} [الجن: 18] وهو قول الخليل وسيبويه.
وأجاز الفراء أن يكون أن وما بعدها في تأويل مصدر عطفًا على {الزكواة} [مريم: 31] أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على {أمْرًا} من قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [مريم: 35] أي إذ قضى أمرًا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو كان، وقيل: إنه عطف على [مريم: 30] وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضًا {وبأن} بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب إما لمعاصري عيسى عليه السلام وإما لمعاصري نبينا صلى الله عليه وسلم {قَبْلَ هذا} أي ما ذكر من التوحيد {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه.
وقوله تعالى: